فصل: تفسير الآيات (50- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (43- 49):

{وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)}.
التفسير:
{وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ}.
العجاف: المهازيل، واحدتها عجفاء، وهى قليلة اللحم لضعفها وهزالها.
أفتونى: من الفتيا، وهى الكشف عن أمر خفىّ، يسأل عنه أهل الخبرة فيه.
تعبرون: عبر الأمر، سبره واختبره.. وتعبير الرؤيا: عبورها إلى ما وراءها من دلالات.. وعبر الوادي: جانبه الآخر.
ورؤيا الملك.. هي رؤيا نائم، حيث وقع له في نومه هذا الذي رآه، وطلب إلى أهل العلم تأويله.
{قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ}.
الأضغاث: الأخلاط من كل شيء، ويجمع الغث والثمين، واحدها ضغث، ومنه قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ} [44: ص] أي مجموعة من أعواد الحطب، وقيل سباطه نخل.
لقد رأى الملك في منامه تلك الرؤيا التي دعا لتأويلها أهل العلم والنظر من رجال دولته، فلم ينكشف لهم منها شيء.. وقالوا هي أخلاط من الأحلام، أشبه بالهلوسة، لا تستقيم منها صورة سويّة يمكن أن يتحققها النظر، ويقع منها على مفهوم، له معقول.. فكيف يجدون تأويلا لهذه الأخلاط من الأحلام، وهم لا يعلمون تأويل الأحلام ذاتها؟ إن تأويل الحلم وحلّ رموزه يحتاج إلى بصيرة نافذة، وقلب ملهم، وهذا أمر غير ميسور، لا يقع إلا لقلة قليلة من الناس، ثم لا يكون لهم مع ذلك القدرة على تأويل كل حلم، فكيف بأضغاث الأحلام؟
والأحلام هي من واردات العقل الباطن للإنسان، كما يقول علم النفس الحديث، أو هي من حديث النفس إلى صاحبها، وللنفوس أحاديث ذات منطق خاص بها، لا يلتقى كثيرا مع منطق الحياة، على مألوف الإنسان منها.
فحديثها في الغالب إشارات ورموز، لا يستجلى مراميها إلا أهل البصيرة النافذة.
ولعل في قوله تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ}.
لعل في هذا ما يشير إلى أن المراد بالأحاديث، هو الأحلام، وهى من حديث النفوس إلى أصحابها.
ويشهد لهذا المعنى الذي ذهبنا إليه أن أبرز ما في حياة يوسف عليه السلام، كان من منطلق الرؤيا التي رآها في أول حياته.. والتي ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى على لسانه: {إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين}.
وقد أولها له أبوه.. ثم أعلمه أن اللّه سبحانه وتعالى سيجتبيه ويعلمه من تأويل الأحاديث كما يقول سبحانه على لسان يعقوب:
{وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ}.
وذلك لما رأى من ابنه يوسف هذه النفس الصافية التي تتحدث إليه هذا الحديث.. فهو بمثل الحديث الذي تحدثه به نفسه، يأخذ، وبه يعطى.! ثم كانت بعد هذا تلك المواقف التي وقفها يوسف في تأويل الأحلام، لصاحبى سجنه، ثم للملك، وعن تأويل هذا الحلم خرج من السجن، واعتلى منصب الوزارة..!
هذا، وقد جاء في الحديث الشريف: «إن فيكم محدّثين وإن منهم عمر» أي إن في جماعة المسلمين من يتحدث إليهم من وراء مدركاتهم بأحاديث ملهمة.
سواء أكان ذلك في اليقظة أو في النوم.
{وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ}.
الذي نجا منهما: هو أحد صاحبى السجن، وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا.
ادّكر: أي تذكر، وأصله اذتكر على وزن افتعل، فقلبت تاء الافتعال دالا لتقارب مخرجيهما، ثم أدغمت الذّال في الدال، لأنها أخفّ منها، ويجوز أن يقال اذّكر، بإدغام الدال في الذّال.
والأمّة: الجماعة من كل شيء والمراد بها هنا كتلة من الزّمن، أي زمن طويل.. ومنه قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} [22: الزخرف] أي على مجموعة متضخمة من العادات والمعتقدات.
وفى قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} إشارة إلى أنه قد عانى كثيرا من التفكير، حتى تذكر يوسف.. ففى الفعل {ادّكر} معالجة، ومعاناة، وعسر. وكذلك في كلمة {أمّة} التي تجمع مقاطع متفرقة من الزمن! والسؤال هنا: كيف ينسى الرّجل وجه يوسف، وكيف بغيب عنه شخصه، وهو الذي كشف له عن رؤياه، وأراه منها وجه النجاة، بهذه البشرى المسعدة؟
ونقول- واللّه أعلم- إنه ربما كان للأيام التي قضاها الرجل في السجن، والعذاب الذي أخذ به، والرعب الذي استولى عليه من الأهوال التي طلعت عليه في سجنه- نقول: ربما كان لذلك آثاره في تفكير الرجل، وفى ذاكرته على وجه خاص.. فما أكثر ما تضم السجون بين جدرانها من عذاب، يرى المبتلون به شواهد من عذاب القيامة قبل أن تقوم!! {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} هنا أحداث صغيرة وقعت، قبل أن يلتقى الرجل بيوسف، وقد ضرب القرآن الكريم عن ذكرها صفحا، لأنها مفهومة من السياق أولا، ولأنها لا يتعلق بذكرها فائدة، ثانيا.
فالرجل حين قال: {أنا أنبئكم بتأويله} أثار في الناس- وخاصة الذين دعوا إلى تأويل رؤيا الملك، تساؤلات كثيرة، فكان من أقوال الناس له:
كيف تفعل أنت هذا الذي لم يستطعه العلماء وأهل الخبرة؟ ومن أين لك هذا العلم؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المنكرة عليه ما قال! ثم لابد أن الرجل أوضح لهم الأمر.. فقال إننى لست أنا الذي أنبئكم بتأويله، ولكن هناك في السجن رجل يعلم ما لا تعلمون من تأويل الأحلام.
وأن هذا الرجل هو يوسف، فأرسلون إليه.. فأرسلوه إليه.
ثم إنه حين دخل على يوسف بدأه بما جاء إليه من أجله.. وقد كان من الطبيعي أن يجرى بينهما حديث وحديث، قبل أن يذكر له ما أراد منه.. ولكن اللهفة إلى إسعاف الملك بما يذهب بحيرته، صرفته عن كل شيء!- وفى قوله تعالى: {أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} إقرار من الرجل بما عرف من يوسف من صدق، فيما أوّل له ولصاحبه من رؤيا.
وفى قوله: {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} الرجاء هنا ليس واقعا على عودته إلى النّاس، إذ أن عودته إليهم أمر مقطوع به، غير متعلق على شيء.
وإنما وقع الرجاء هنا على محذوف تقديره: لعلى أرجع إلى الناس بما يكشف لهم عما أصابهم من بلبلة واضطراب، إزاء هذه الرؤيا التي رآها الملك، وحار العلماء والسحرة والمنجمون في فكّ طلاسمها وحلّ رموزها.
أما الرجاء في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} فهو واقع على الناس، وعلى العلم الذي يجيئهم به من يوسف عن هذه الرؤيا.. أي لعلهم يعلمون من هذا قدرك وفضلك، وأنك الصّدّيق الذي لا يتّهم، وأنهم قد اتهموك ظلما، وأودعوك السجن بغير جريرة.. أو لعلهم يعلمون ما غاب عنهم علمه من هذه الرؤيا، وأعجزهم الوصول إليه.
{قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} الدأب: المستمر، المتصل، في جدّ ومثابرة.
شداد: أي فيها شدة، وقسوة، وجدب.
تحصنون: أي تحفظون.. ومنه الحصن، لأنه يحفظ من فيه، والحصان، والمحصنة، لأنها تحفظ نفسها من الإثم.. والحصان {بالكسر} لأنه يحفظ راكبه، ويمنحه قوة على عدوّه.
يغاث الناس: أي ينزل عليهم الغيث، وهو المطر، الذي يحمل إليهم الحياة، ويمدّهم بالخصب والنماء.
يعصرون: أي يصنعون الخمر من الأعناب، التي تزدهر وتثمر في هذا العام.
بهذا التأويل كشف يوسف عن مضمون رؤيا الملك ومحتواها، وأنها تنبئ عن الأحداث المقبلة التي ستجرى على مصر خلال أربعة عشر عاما آتية! فالأعوام السبعة المقبلة، هي أعوام خصب وزرع وثمر.
والأعوام السبعة التي بعدها، أعوام جدب وقحط، لا تنبت زرعا، ولا تطلع ثمرا.
ولم يكتف يوسف بتأويل الرؤيا، بل أعطى التدبير الحكيم الذي ينبغى أن يقوم إلى جانب مدلولها.. وبهذا كشف للناس عن موهبة سياسية نادرة، وأطلعهم منه على بصيرة نافذة، في الإمساك بدفّة السفينة في متلاطم الأمواج، ليبلغ بها مرفأ الأمان والسلامة.
فكان أن نصح لهم بأن يجدّوا الجدّ كله خلال السنوات السبع المقبلة، في زرع كل ما استطاعوا زرعه من الحبّ، الذي هو عماد الغذاء للناس.. ثم أن يمسكوا هذا الذي يجيئهم مما زرعوا، دون أن يأخذوا شيئا منه، إلا قليلا مما يأكلون.. ثم أن يدعوا هذا الذي احتفظوا به في سنابله حتى لا يناله السّوس، أو يمسّه العطب! ومن هذا الذي ادخروه في سنوات الرخاء والخصب، يكون غذاؤهم في سنوات الشدة والجدب! ذلك هو التدبير أحكم التدبير، لملاقاة هذه السنوات السبع العجاف التي ستطلع على الناس، بعد سبع سنين من الخصب والرخاء.
وفى قوله: {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} دعوة إلى التزام القصد والاعتدال خلال سنوات الخصب، وأن على الناس فيها أن يأخذوا القليل مما يحتاجون إليه، وأن يعيشوا في حال أشبه بحال الحرب.. وبذلك يمكن أن يواجهوا هذه المحنة المقبلة عليهم، وأن يخرجوا منها سالمين، وإلا فإنهم إن نسوا في خصبهم أيام الجدب المقبلة عليهم، هلكوا جميعا.. إنهم مقدمون على حرب قاسية مع الجدب والقحط، فإذا لم يستعدوا لهذه الحرب هلكوا بيد الجوع والحرمان.
وفى قوله: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} إجابة على سؤال يتردد في خواطر الناس.. وهو: ما ذا سيكون عليه الحال بعد هذه السّنوات المجدبة؟ وهل يجيء بعدها الخصب الذي اعتادوه، أم أنها ستكون سنة تجمع بين الخصب والجدب؟ فكان هذا الذي بشّرهم به، وأراهم منه طريق النجاة، فسيحا، رحيبا: {عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}.
إنه عام فيه خير كثير، يذهب بكل ما عانى الناس من بلاء وشدة خلال هذه السنوات الأربع عشرة! وفى هذا ما يشدّ عزمات الناس، ويمسك بهم على طريق الصبر والاحتمال، حيث تتوارد عليهم الحياة في شدتها ولينها، وضرّائها وسرائها.

.تفسير الآيات (50- 52):

{وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52)}.
التفسير:
ما خطبكن: أي ما شأنكن.. حاش للّه: أي تنزيها للّه.. وحاشا:
فعل استثناء يعزل ما بعده عن الحكم الواقع على ما قبله.
حصحص الحق: أي انكشف، وظهر، وتمحّص.
{وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ}.
لقد وقع ما تأول به يوسف حلم الملك موقع اليقين من الملك، ورأي ما كان قد رآه مناما أمرا واقعا بين يديه، ورأى في يوسف الأمل الذي طلع عليه من حيث لا ينتظر، مادّا يده إليه بحبل الخلاص والنجاة، فهتف فيمن حوله: {ائتوني به}!! ولم يقل: ائتوني بيوسف، استعجالا لإحضاره، واختصارا للوقت الذي يضيع في النطق باسمه، مكتفيا بالإشارة إليه بضميره!- {فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} لقد انتهز يوسف الفرصة السانحة له، وقد أصبح مطلوبا من الملك، لا طالبا له، ومرغوبا لا راغبا، فأراد أن يملى شروطه، ولم تنسه فرحة الخلاص من السجن بعد هذه السنين الطويلة التي قضاها بين جدرانه- لم ينسه ذلك أن يبدأ أولا بمحو هذه التهمة التي علقت به، وأن يقيم الملك على رأى صحيح فيه، وأن يعلم علم اليقين من هو هذا الإنسان الذي رمى بهذا البهتان، وقذف بهذا المنكر؟
فهناك واقعة لا يمكن إنكارها، إذ كانت بمشهد من عدد كثير من النسوة، كما كان أثرها المادي مما لا يخفى، وربما لا يزال بعضه باقيا إلى يومه هذا.. {النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}.
ما بالهن فعلن هذا الفعل؟ وفى أية مناسبة حدث هذا لهن؟ ففى الإجابة عن هذا السؤال ما يكشف عن الكيد الذي كدن له به! {قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ}؟.
وسأل الملك عن أمر هؤلاء النسوة، فلما أخبر به، دعاهن إليه، وسألهنّ:
{ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه}؟ ويوسف لم يقل إنهن راودته عن نفسه، بل اكتفى بذكر الحادثة، ولم يذكر مدلولها، وذلك أدب من أدب النبوة الذي يأبى عليه أن يذكر كلمة السوء، وأن يفضح الحرائر! ولكن الملك قالها لهن صريحة: {ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه}؟ لقد ملك يوسف عليه مشاعر الحب والإجلال، وساءه أن يلقى هذا الإنسان الكريم ما لقى من هذا الاتهام الشنيع، وهو العفّ الطاهر، التقىّ النقىّ، فأراد أن ينتقم له، وأن يعرض هؤلاء النسوة على الملأ في مقام الخزي والفضيحة!.
ولم تجد النسوة في يوسف ما يقلنه فيه، دفاعا عن أنفسهن، ولم تكن غير كلمة الحق كلمة يمكن أن تنطق بها ألسنتهن، إزاء هذه الشمس التي ملأ نورها الآفاق من حولهن، حتى إن الملك نفسه ليستضيء بضوئها، ويستهدى بهديها.. فكان جوابهن إقرارا منهن ليوسف بالعفة والطهارة.
{قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} أي تنزيها للّه عن كلّ نقص، وكما ننزّه اللّه عن كل عيب ونقص، ننزه يوسف عن كل منكر وقبيح! {ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ}.
ولم تقل النسوة: ما رأينا عليه من سوء وإنما قلن هذا القول: {ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} تأكيدا لطهره وعفّته، فإنهنّ لم يرين منه ما يسوء ولم يعلمن من أمره ما يشين.. سواء أكان ذلك معهن، أو مع غيرهن.
وتتلفت الأنظار هنا إلى امرأت العزيز، وتصغى الآذان إلى ما تقول في هذا المقام، وهى رأس هذا الأمر كله.. فما ذا قالت امرأت العزيز؟.
{قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} لقد قهرها الحق، فأقرت على نفسها بمشهد من هذا الملأ:
{أنا راودته عن نفسه}.
فقد ظهر الحق، ولم يعد ثمة سبيل إلى إخفائه.
{أنا راودته عن نفسه}: تقولها هكذا صريحة مؤكّدة {أنا راودته عن نفسه}! ولم تكتف بهذا العرض الذي تعرض فيه نفسها في معرض الاتهام الصريح المؤكد، بل تستحضر يوسف الذي لا يزال في سجنه، وتستدعى صورته التي لا تزال تملأ خيالها فنقول: {وإنه لمن الصادقين}.
أي إننى لكاذبة فيها تقوّلته عليه، وإنه لصادق فيه نفى هذا الاتهام عنه.. وفى قول يوسف:
{فاسأله ما بال النسوة} دون أن يشير إلى امرأة العزيز- أدب عال لا يصدر إلا ممن تأدب بأدب السماء، من أنبياء اللّه ورسله.
{ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ} أي إنّى أقرر ذلك، وأشهد به على نفسى في غير مواجهة، وذلك ليعلم أنّى لم أكذب عليه في غيبته، حيث لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ودفع ما أتقوّله عليه.
وفى قولها: {ذلك ليعلم أنّى لم أخنه بالغيب} اعتذار منها ليوسف، وتودّد إليه، وفتح لباب الصفح والمغفرة بينها وبينه.
وفى قولها: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ} تعليق على ما كان منها من كيد وخيانة ليوسف، وأن هذا التدبير السيّء قد فضحه اللّه، وأخزى أهله.. وهكذا كل باطل لابد أن تكشف الأيام زيفه، وتفضح وجهه المطلى بالزور والبهتان.. وفى هذا ما يدلّ على حسرتها على ما كان منها في حق هذا الإنسان العظيم، الذي لم يكن له من ذنب، إلا أن اللّه سبحانه صوّره فأحسن صورته، وأكمل خلقه! هذا، ويجوز أن يكون هذا القول من يوسف عليه السلام، وأنه قاله بعد أن علم بإقرار النسوة، وشهادة امرأة العزيز على نفسها، قاله معلّقا ومعلّلا لهذا الطلب الذي طلبه من الملك، وهو أن يسأل النسوة اللّاتى قطعن أيديهنّ.
وبهذا ينكشف له واقع الأمر، وقد انكشف هذا الواقع عن براءة يوسف مما رمى به، وبهذا يعلم العزيز أن يوسف لم يخنه في غيبته وأنه كان أمينا على حرماته، وأنه لو كان خائنا له أو لغيره ما هداه اللّه إلى كشف هذه الحقائق التي كشف عنها، لأن هذا لا يكون إلا عن بصيرة استضاءت بنور اللّه، واهتدت بهذا النور، واللّه لا يهدى كيد الخائنين، ولا ينجح لهم أمرا، ولا يجعل لهم نورّا: {ومن لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور}.
ونحن نميل إلى القول بأن قوله تعالى: {ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
نميل إلى القول بأن هذا هو من حديث يوسف إلى نفسه، تعليقا على ما انكشف للملك من أمر النسوة، وما ظهر من براءته.
وذلك لأنه قد جرى في هاتين الآيتين، ذكر اللّه سبحانه وتعالى، ووصفه بصفات الكمال، كقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ}.
وقوله: {إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وهذا لا يصدر إلا من إنسان مؤمن باللّه إيمانا مشرقا متمكنا.. وامرأة العزيز، لم تكن- في غالب الظن- مؤمنة.. وأنه إذا كانت مصر قد عرفت التوحيد في فترة من تاريخها الفرعوني، فإنها في فترات كثيرة كانت تعبد أنواعا من الآلهة تتخذها من عالم الحيوان، أو الكواكب، وغير ذلك.
ثم إن مصر في هذه الفترة بالذات، التي عاصرت يوسف عليه السلام، كانت على غير دين التوحيد، حيث رأينا يوسف في سجنه يدعو صاحبيه إلى الإيمان باللّه، ويكشف لهما عن زيف الآلهة التي يعبدونها من دون اللّه، كما يقول سبحانه وتعالى على لسانه: {يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} واللّه أعلم.